فصل: فائدة بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168)}.
إن من رحمة الله عز وجل على عباده أنه لم يقصر الخطاب على الذين آمنوا؛ وإنما وسع الدائرة لتشمل المؤمنين وغيرهم؛ فقال: {يا أيها الناس} فكأنه خلق ما في الأرض جميعا للناس جميعا، وهذا ما قلنا عنه: إنه عطاء الربوبية لكل البشر، من آمن منهم ومن لم يؤمن، فهو سبحانه خلق كل الخلق، مؤمنهم وكافرهم، ومادام قد خلقهم واستدعاهم إلى الوجود فهو يوجه الخطاب لهم جميعا؛ مؤمنهم وكافرهم؛ وكأن الخطاب يقول للكافرين: حتى ولو لم تؤمنوا بالله، فخذوا من المؤمنين الأشياء الحلال واستعملوها لأنها تفيدكم في دنياكم؛ وإن لم تؤمنوا بالله، لأن من مصلحتكم أن تأكلوا الحلال الطيب، فالله لم يحرم إلا كل ضار، ولم يحلل إلا كل طيب.
هنا موقف يقفه كثير من الذين أسرفوا على أنفسهم، ويحبون أن تكون قضية الدين وقضية التحريم وقضية التحليل، قضايا كاذبة؛ لأنه لا ينجيهم أمام أنفسهم إلا أن يجدوا أشياء يكذبون بها الدين، لأنهم لم يستطيعوا أن يحملوا أنفسهم على مطلوبات الله، فلما لم يستطيعوا ذلك لم يجدوا منفذا لهم إلا أن يقولوا: إن قضايا الدين كاذبة بما فيها التحليل والتحريم. إنهم يقولون: مادام الله قد حرم شيئا فلماذا خلقه في الكون؟. كأنهم يعتقدون أن كل مخلوق في الأرض قد خلق ليؤكل، وما علموا أن لكل مخلوق في الأرض مهمة، فهم الآن يمسكون الحيات والثعابين ليستخلصوا منها السموم؛ حتى يقتلوا بها الميكروبات التي تقتل الإنسان، وكانوا قبل اكتشاف فائدة السم في الثعبان يتساءلون وما فائدة خلق مثل هذه الثعابين؟.
فلما أحوجهم الله وألجأهم إلى أن يستفيدوا بما في الثعابين من سم؛ ليجعلوه علاجا أدركوا حكمة الله من خلق هذه الأنواع، لقد خلقها لا لنأكلها، وإنما لنعالج بها.
فأنت إذا رأيت شيئا محرما لا تقل لماذا خلقه الله، لأنك لا تعرف ما هي مهمته، فليست مهمة كل مخلوق أن يأكله الإنسان، إنما لكل مخلوق مهمة قد لا تشعر بأدائها في الكون.
وهذه مسألة نستعملها نحن في ذوات نفوسنا، على سبيل المثال؛ عندما يأتي الصيف ونخشى على ملابسنا الصوفية من الحشرات؛ فنأتي لها بما يقتل الحشرات، وهو النفتالين، ونحذر أبناءنا من عدم الاقتراب منه وأكله. إن النفتالين لا يؤكل، ولكنه مفيد في قتل الحشرات الضارة.
كذلك الفينيك نشتريه ونضعه في زجاجة في المنزل لنطهر به أي مكان ملوث، ونحذر الأطفال منه لأنه ضار لهم، ولكنه نافع في تطهير المنزل من الحشرات، وكذلك المخلوقات التي لا نعرف حكمة خلقها، لقد خلقها الله لمهمة خاصة بها، فلا تنقل شيئا من مهمته إلى مهمة أخرى.
وإذا كان الإنسان لم يدرك حتى الآن فائدة بعض المخلوقات، فما أكثر ما يجهل، وهو يكتشف كل يوم سرا من أسرار مخلوقات الله. وعلى سبيل المثال، كانوا ينظرون إلى نوع من السمك لا يتجاوز حجمه عقلة الإصبع؛ ولا يكبر أبدا، واحتاروا في فائدته، وعندما ذهبنا للسعودية ورأينا الأماكن التي نأخذ منها الماء الذي قد يفسد، ووجدنا هذا النوع من السمك بكثرة، فسألناهم عن حقيقة هذا السمك، فقالوا: إنه لا يكبر ويظل على هذا الحجم، ومهمته تنقية المياه في الأماكن التي لا يقوم الإنسان بتنقيتها. وجربنا حقيقة ما قالوا؛ فألقينا بعضا من مخلفات الطعام؛ فوجدنا هذه الأسماك تخرج من حيث لا ندري وتلقف هذه البقايا؛ ولا تتركها حتى تنهيها. هكذا يخلق الحي القيوم مخلوقات لتحفظ مخلوقات أخرى، هو سبحانه يقول للإنسان: لا تأكل هذا وكل ذاك؛ لحكمة قد لا نعرفها.
مثال آخر، الطائر المعروف بأبي قردان صديق الفلاح، كانت وظيفته في الحياة أن يأكل الحشرات والديدان عند ري الأرض، ومنذ أن اختفى هذا الطائر يتأثر بالمبيدات؛ استفحل خطر الديدان على الزرع وبخاصة دودة القطن. إنها معادلة إلهية مركبة تركيبا دقيقا. وكذلك الذباب، يتساءل بعض الناس ما حكمة وجوده في الحياة؟ وهم لا يعرفون أن الذباب يؤدي للإنسان دورا هاما هو أكل القاذورات وما بها من أمراض، ولو تحصن الناس بالنظافة لما جاءهم الذباب. إذن، فكل شيء في الوجود مرتب ترتيبا دقيقا، إنه ترتيب خالق عليم حكيم، ومادام الحكيم هو الذي خلق؛ فلا يعترض أحد ويقول لماذا خلق كذا وكذا؟، لأن لكل مخلوق دورًا يؤديه في الكون.
ولذلك ينبه الخالق الناس- مؤمنهم وكافرهم- بأن يأكلوا الحلال الطيب من الأرض، وهو يقول للكافر؛ إنك إن تعقلت الأمور؛ لوجدت أن كل ما أمرتك به هو لصالحك، وحتى لو لم تؤمن فأنا أدلك على ما ينفع، فلا تأكل إلا الحلال الطيب، انظر إلى المؤمنين بماذا سمح لهم من طعام وكل مثلهم. وقد أثبت الواقع والتاريخ؛ أن الكافرين يلجأون إلى منهج الله في بعض الأقضية؛ ليحلوا مشاكل حياتهم، لا بدين الله كدين، ولكن بأوامر الله كنظام، فلو كان عند الكافرين بالله حكمة حتى فيما يتعلق بشئون دنياهم؛ لأخذوا ما أمر الله به المؤمنين واتبعوه.
والمثال على ذلك؛ عندما يحرم الحق سبحانه وتعالى لحم الميتة، أي التي ماتت ولم تذبح، إن لحمها ضار بالصحة، لأن أوعية الدم في الحيوان وفي كل كائن حي هي وعاءان! إما أوردة وإما شرايين، والدم قبل أن يذهب إلى الكلى أو الرئة يكون دما فاسدا، ونحن عندما نذبح الحيوان يسيل منه الدم الفاسد وغير الفاسد ويخرج، ويصير اللحم خالصا، لكن الحيوان الذي لم يذبح؛ لم يذك، يعي لم يطهر من فساد الدم، وهو ضار للإنسان. الشيطان عداوته لكم مسبقة، ويجب أن تحتاطوا بسوء الظن فيه؛ فهو الذي عصى ربه؛ ولا يصح أن يطاع في أي أمر، {إنه لكم عدو مبين} وعداوة الشيطان للإنسان قديمة من أيام آدم.
ويقول الحق عن أوامر الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169)}.

.فصل: في بيان أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح:

دلَّت الآية على أنَّ الشطان لا يأمر إلا بالقبائح؛ لأنَّ الله تعالى ذكره بكلمة {إنَّمَا} وهي للحصر.
وقد قال بعضهم: إن الشيطان قد يدعو إلى الخير؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشَّرِّ؛ وذلك على أنواع: إمَّا أن يجرَّه من الأفضل إلى الفاضل، ليتمكَّن من أن يجره من الفاضل الشَّرِّ، وإمَّا أن يجرَّه من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشقِّح ليصير ازدياد المشقَّة سببًا لحصول النُّفرة عن الطَّاعات بالكلِّيَّة.
وتناولت الآية الكريمة جمع المذاهب الفاسدة، بل تناولت مقلِّد الحقِّ؛ لأنَّ!ه قال مالا يعلمه؛ فصار مستحقًّا للذَّمِّ؛ لاندراجاه تحتهذا الذَّمِّ. اهـ.
سؤال: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرًا مع قوله: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر: 42]؟
قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتني نفسي بكذا. وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه؛ ولذلك قال: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء: 119] وقال الله تعالى: {إِنَّ النفس لأَمّارَةٌ بالسوء} [يوسف: 53] لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت. اهـ.

.فائدة في بيان ما يدعو إليه الشيطان:

ينحصر ما يدعو الشيطان إليه ابن آدم ويوسوس له في ست مراتب:
المرتبة الأولى مرتبة الكفر والشرك ومعاداة رسوله فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه معه؛ لأنه حصل منتهى أمنيته وهذا أول ما يريده من العبد.
المرتبة الثانية البدعة هي أحب إليه من الفسوق والمعاصى لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها لأن صاحبها يظنها حقيقة صحيحة فلا يتوب.
فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الثالثة وهى الكبائر على اختلاف أنواعها.
فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الرابعة وهى الصغائر التي إذا اجتمعت صارت كبيرة والكبائر ربما أهلكت صاحبها كما قال عليه السلام: «إياكم ومحقرات الذنوب» فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض فجاء كل واحد يعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة وطبخوا وشبعوا.
فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الخامسة وهى اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عقابها فوات الثواب الذي فات عليه باشتغاله بها فإن عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة السادسة وهى أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيجره من الفاضل إلى المفضول ومن الأفضل إلى الفاضل ليتمكن من أن يجره من الفاضل إلى الشرور بما يجره من الفاضل السهل إلى الافضل الأشق كمائة ركعة بالنسبة إلى ركعتين ليصير ازدياد المشقة سببا لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية.
وإنما خلق الله إبليس ليتميز به الخبيث من الطيب فخلق الله الأنبياء لتقتدى بهم السعداء وخلق إبليس لتقتدى به الأشقياء ويظهر الفرق بينهما، فإبليس دلال وسمسار على النار والخلاف وبضاعته الدنيا ولما عرضها على الكافرين قيل ما ثمنها قال ترك الدين فاشتروها بالدين وتركها الزاهدون واعرضوا عنها، والراغبون فيها لم يجدوا في قلوبهم ترك الدين ولا الدنيا فقالوا له أعطنا مذاقة منها حتى ننظر ما هي فقال إبليس: أعطونى رهنا فأعطوه سمعهم وأبصارهم ولذا يحب أرباب الدنيا استماع أخبارها ومشاهدة زينتها لأن سمعهم وبصرهم رهن عند إبليس فأعطاهم المذاقة بعد قبض الرهن فلم يسمعوا من الزهاد عيب الدنيا ولم يبصروا قبائحها بل استحسنوا زخارفها ومتاعها فلذلك قيل حبك الشيء يعمى ويصم، فعلى العاقل أن يزهد ويرغب عن الدنيا ولا يقبل منها إلا الحلال الطيب.
قال الحسن البصرى: الحلال الطيب ما لا سؤال فيه يوم القيامة وهو ما لابد منه. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا} فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه فما يتقبل منه أربعين يومًا، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} قال: عمله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما خالف القرآن فهو من خطوات الشيطان.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} قال: خطاه.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} نزعات الشيطان.
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: {خطوات الشيطان} قال: تزيين الشيطان.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود. أنه أتى بضرع وملح فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم. فقال: لا أريد. فقال: أصائم أنت؟ قال: لا. قال: فما شأنك؟ قال: حرمت أن آكل ضرعًا أبدًا. فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فاطعم وكفر عن يمينك.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مجلز في قوله: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} قال: النذور في المعاصي.
وأخرج عبد بن حميد عن عيسى بن عبد الرحمن السلمي قال: جاء رجل إلى الحسن فسأله وأنا عنده فقال له: حلفت إنْ لم أفعل كذا وكذا أن أحج حبوًا. فقال: هذا من خطوات الشيطان، فحج واركب وكفر عن يمينك.
وأخرج عبد بن حميد عن عثمان بن غياث قال: سألت جابر بن زيد عن رجل نذر أن يجعل في أنفه حلقة من ذهب فقال: هي من خطوات الشيطان، ولا يزال عاصيًا لله فليكفر عن يمينه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: إنما سمي الشيطان لأنه يشيطن.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: {إنما يأمركم بالسوء} قال: المعصية {والفحشاء} قال: الزنا {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} قال: هو ما كانوا يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي، ويزعمون أن الله حرم ذلك. اهـ.

.فائدة بلاغية:

{إنما يأمركم} تمثيلية بتشبيه حاله وحالهم في التسويل والوسوسة وفي تلقيهم ما يوسوس لهم بحال الآمِر والمأمور ويكون لفظ يأمر مستعملًا في حقيقته مفيدًا مع ذلك الرمزَ إلى أنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمر أنفسهم وفي هذا زيادة تشنيع لحالهم وإثارة للعداوة بين الشيطان وبينهم. اهـ.
قوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
وقوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} يشير إلى ما اختلقه المشركون وأهلُ الضلال من رسوم العبادات ونسبة أشياء لدين الله ما أَمَر الله بها. وخصه بالعطف مع أنه بعض السوء والفحشاء لاشتماله على أكبر الكبائر وهو الشرك والافتراء على الله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}.
قوله تعالى: {مِمَّا فِي الأرض حَلاَلًا طَيِّبًا} حَلالًا فيه خَمْسَة أوجُهٍ:
أحدها: أن يكون مفعولًا ب {كُلُوا} ومِنْ على هذا فيها وجهان:
أحدهما: أنْ تتعلَّق ب {كُلُوا} ويكون معناها ابتداء الغاية.
الثاني: أنْ تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من {حلالًا} وكانت في الأصلِ صفةً له، فَلَمَّا قُدَّمَتْ عليه، انتصَبَتْ حالًا ويكون معنى مِن التَّبْعِيضَ.
الثاني: أنْ يكون انتصابُ {حَلاَلًا} على أنَّه نعتُ لمفعولٍ محذوف، تقديرُهُ: شيئًا أو رِزْقًا حَلاَلًا، ذكَرَه مَكِّيٌّ واستعبده ابن عطيَّة ولم يبيِّن وجه بُعْده، والذي يظهرُ في بُعْده أَنَّ {حَلاَلًا} ليس صفةً خاصَّة بالمأْكُول بل يُوصَف به المأكُول وغيره وإذا لم تكُن الصفة خاصَّة، لا يجوز حذف الموصول.
الثالث: أن ينتصب {حلالًا} على أنَّه حالٌ من ما بمعنى: الذي، أي: كُلُوا من الَّذي في الأرض حال كونه حلالًا.
الرابع: أن ينتصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: أكلًا حلالًا، ويكون مفعول {كُلُوا} محذوفًا، وما في الأرض صفةً لذلك المفعول المحذوف، ذكره أبو البقاء وفيه من الرَّدِّ ما تقدِّم على مَكِّيٍّ، ويجوز على هذا الوجه الرابع ألا يكون المفعول محذوفًا، بل تكون مِنْ مزيدةً على مذهب الأخفش، تقديره، كُلُوا مَا في الأَرْضِ أكْلًا حَلاَلًا.
الخامس: أن يكون حالًا من الضَّمير العائد على ما قاله ابن عطيَّة، يعني بالضَّمير الضَّمير المستكنَّ في الجارِّ والمجرور، الواقع صلة.
و{طَيِّبًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون صفة لحَلاَل أمَّا على القول بأنَّ مِنْ للابتداء، متعلِّقةٌ ب {كُلُوا} فهو واضحٌ؛ وأمَّا على القول بأن {مِمَّا في الأَرْضِ} حال من {حَلاَلًا}، فقال أبُوا البَقَاءِ رحمه الله تعالى: ولكن موضعها بعد الجارِّ والمجرور، لئلاَّ يفصل الصِّفة بين الحال وذي الحال.
وهذا القول ضعيفٌ، فإنَّ الفصل بالصفة بين الحال وصاحبها ليس بممنوعٍ؛ تقول جَاءَنِي زَيْدٌ الطَّويلُ راكِبًا، بل لو قدَّمت الحال على الصِّفة، فقلت: جاءَنِي زَيْدٌ راكبًا الطَّوِيلٌ- كان في جوازه نظر.
الثاني: أن يكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالًا من المصدر المعرفة المحذوف: أي أكلًا طَيِّبًا.
الثالث: أن يكون حالًا من الضَّمير في {كُلُوا} تقديره: مستطيبين- قال ابن عطيَّة.
قال أبُو حَيَّان: وهذا فاسدٌ في اللَّفظ أمَّا اللَّفظ؛ فلأنَّ الطَّيِّبَ اسم فاعل فكان ينبغي أن تُجمع؛ لتطابق صاحبها؛ فيقال: طيِّبين، وليس طَيِّب مصدرًا؛ فيقال: إنَّما لم يجمع لذلك، وأمَّا المعنى؛ فلأنَّ {طَيِّبًا} مغايرٌ لمعنى مستطيبين، لأنَّ الطَّيِّب من صفات المأكول، والمستطيب من صفات الآكلين، تقول: طَابَ لِزَيْدٍ الطَّعَامُ ولا تقول: طَابَ زَيْدُ الطَّعَامَ بمعنى استطابه.
والحَلاَلُ: المأذون فيه ضدُّ الحرام الممنوع منه، حلَّ يحلُّ، بكسر العين في المضارع، وهو القياس، لأنه مضاعفٌ غير متعدٍّ، يقال: حَلاَلٌ، وحِلٌّ؛ كَحَرَامٍ وحِرْمٍ وهو في الأصل مصدرٌن ويقال: حِلٌّ بِلٌّ على سبيل الإتباع؛ ك حَسَنٌ بَسَنٌ، وحَلٌ بمكان كذا يَحُلُّ- بضم العين وكسرها- وقُرئ: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} [طه: 81] بالوجهين، وأصله من الحضلِّ الذي هو: نقيض العقد، ومنه: حلَّ بالمكان، إذا نزل به؛ لأنَّه حلَّ شدَّ الرحال للنُزول، وحَلَّ الدَّين إذا نزل به، لانحلال العقد بانقضاء المُدَّة، وحَلَّ من إحرامه، لأنه حَلَّ عقد الإحرام، وحلَّت عليه العقوبة، أي: وجبت لانحلال العقدة المانعة من العذاب ومن هذا: تَحِلَّةُ اليمين: لأن عقد اليمين تنحلُّ به.
والطَّيِّبُ في اللغة: يكون بمعنى الطَّاهر، والحلال يوصف بأنَّه طيِّبٌح قال تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} [المائدة: 100] والطَّيِّب في الأصل: هو ما يستلدُّ به ويستطاب، ووصف به الطَّاهر، والحلال؛ على وجهة التشبيه؛ لأنَّ النَّجس تكرهه النَّفس؛ فلا تستلذُّه، والحرام غير مستلذٍّ، لأنَّ الشرع يزجر عنه.
وفي المراد بالطَّيِّب في الآية وجهان:
الأول: أنه المستلذُّ؛ لأنا لو حملناه على الحلال، لزم التكرار؛ فعلى هذا يكون إنما يكون طيِّبًا، إذا كان من جنس ما يشتهى؛ لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه، عاد حرامًا، وإن كان يبعد وقوع ذلك من العاقل إلاّ عند شبهة.
والثاني: أن يكون المراد ما يكون جنسه حلالًا، وقوله: {طَيِّبًا} المراد منه: ألاَّ يكون متعلِّقًا به حقُّ الغير؛ فإنَّ أكل الحرام، وإن استطابه الآكل، فمن حيث يؤدِّي إلى العقاب: يصير مضرَّةً، ولا يكون مستطابًا؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
قوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان}: قرأ ابنُ عامِرٍ، والكسَائيُّ، وقُنْبُلٌ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، ويَعْقُوبُ: {خُطُوَاتِ} بضم الخاء، والطاء، وباقي السَّبْعة بسكون الطاء.
أمّا من ضمَّ العين؛ فلأنَّ الواحدة خُطْوَة فإذا جمعت، حرِّكت العين؛ للجمع، كما فعلت في الأسماء التي على هذا الوزن؛ نحو: غُرْفَةٍ وغَرَفاتٍ، وتحريك العين على هذا الجمع؛ للفصل بين الاسم والصِّفة؛ لأن كلَّ ما كان اسمًا، جمعته بتحريك العين؛ نحو: تَمْرَة وتَمَرَات، وغَرْفَةٍ وغَرَفاتٍ، وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ، وما كان نعتًا، جمع بسكون العين؛ نحو: ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ، وعَبْلَةٍ وعَبْلاَتٍ، والخُطْوَة: من الأسماء، لا من الصفات، فتجمع بتحريك العين.
وقرأ أبو السَّمَّال {خُطَوَات} بفتحها، ونقل ابن عطيَّة، وغيره عنه: أنه قرأ: {خَطَوَات}، بفتح الخاء، والطاء، وقرأ عليٌّ وقتادة، والأعمش بضمِّها، والهمز.
فأما قراءة الجمهور، والاولى من قراءتي أبي السَّمَّال، فلأن فُعْلَة الساكنة العين، السَّالِمَتَهَا، إذا كان اسمًا، جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة أوجهٍ، وهي لغاتٌ مسموعةً عن العرب: السُّكون، وهو الأصل، والإتباع، والفتح في العين، تخفيفًا.
وأما قراءة أبي السَّمَّال التي نقلها ابنُ عطيَّة، فهي جمع خَطْوَة بفتح الخاء، والفرق بين الخطوة بالضَّمَّ، والفتح: أنَّ المفتوح: مصدر دالًّ على المرَّة، من: خَطَا يَخْطُوا، إذا مشى، والمضموم: اسمٌ لما بين القدمين؛ كأنَّه اسم للمسافة؛ كالغرفة اسم للشيء المغترف.
وقيل: إنَّهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكره أبُو البَقَاءِ.
وأمَّا قراءةُ عليٍّ، ففيها تأويلان:
أحدهما- وبه قال الأَخْفَشُ: أنَّ الهمزة أصلٌ، وأنَّه من الخَطَأ، وخُطُؤَات جمع خِطْأَة إن سمع، وإلاَّ فتقديرًا، وتفسير مجاهد إياه بالخَطَايَا يؤيِّد هذا، ولكن يحتملُ أن يكون مجاهد فسَّره بالمرادف.
والثاني: أنه قلب الهمزة عن الواو؛ لأنَّها جاورة الضمّة قبلها؛ فكأنها عليها؛ لأنَّ حركة الحرف بين يديه على الصَّحيح، لا عليه.